من المعروف أن “رؤية الإمارات” تستهدف جعل الإمارات من بين أفضل دول العالم بحلول ذكرى اليوبيل الذهبي لتأسيس الاتحاد. واعتماداً على تجربتي الشخصية بصفتي مقيماً منذ فترة طويلة وشريكاً تكنولوجياً للإمارات، فضلاً عن كوني شاهداً على الاستثمارات التي رُصدت لتحسين حياة الناس من خلال تعزيز تجاربهم في مختلف نواحي حياتهم، أستطيع القول إنه لا يساورني أدنى شك في أن الدولة ستحقق أهدافها على صعيد التموضع بين أفضل دول العالم.
وأعتقد أن إحدى أهم مفاتيح نجاح الدولة، تكمن في المقاربة المدروسة التي تعتمدها الحكومة للتعامل مع الحلول التكنولوجية الجديدة. وبدلاً من الانضمام للموجة أو “الترند” الذي يكون سائداً، تميل الوكالات الحكومية الإماراتية إلى إجراء تقييم هادئ وصحيح للتوجهات التكنولوجية الجديدة، ومن ثم تسأل السؤال الدقيق: “كيف يمكن أن يساعد ذلك في تحسين حياة الناس؟”.
وهذه بالتحديد المقاربة التي نشهدها بينما تنخرط الإمارات في ثورة الذكاء الاصطناعي.
لطالما كان الذكاء الاصطناعي موجوداً في حياة عموم سكان الإمارات، وهذا أمر بدأ منذ سنوات ولو بشكل نسبي. لقد دعم الذكاء الاصطناعي روبوتات الدردشة الخاصة بمراكز الاتصال، مساهماً بذلك في تحسين عمليات تحليل البيانات الخاصة بالأعمال، وتطوير الجانب المتصل بالأمان من خلال التعرّف على المقاييس الحيوية. وحدث كل ذلك، بالتزامن مع تقديم تحسينات على تجارب الخدمات التي يخوضها الناس بشكل يومي. لكن هذه التكنولوجيا، التي كانت مُدمجة في صلب العمليات وبشكل هادئ ومن دون ضجة، باتت وبشكل سريع في مقدمة الأحداث خصوصاً عندما انتشرت نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي القائم على نموذج لغوي ضخم، وأشهرها “تشات جي بي تي” ChatGPT.
وليس من المبالغة القول إن هذا النوع من الذكاء الاصطناعي يغيّر قواعد اللعبة، لأنه قادر حقاً على التواصل بطريقة تشبه الأسلوب الذي يستخدمه البشر، على عكس تطبيقات الذكاء الاصطناعي الخاص بالدردشة التي سبق أن رأيناها. وبدلاً من الاعتماد على البرمجة النصّية الجامدة، والحد من ميزات وقدرات الدردشة ضمن سيناريوهات ضيقة محددة مسبقاً، يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي التعامل مع المشاكل المعقدة والتعرّف على سياق المحادثات. وهو يحقق نجاحاً فعلياً في أغلب الأحيان.
وكما هو متوقع، تُسارع المؤسسات حول العالم إلى استكشاف قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحديد أفضل سُبل الاستخدام. الأمر ذاته ينطبق على الدوائر الحكومية الإماراتية التي نعمل معها. لكننا أمام مقاربة مختلفة هنا، إذ أن الهدف النهائي في الحالة الإماراتية يتمثّل في أكثر من مجرد العثور على حالات استخدام رائجة مثيرة للاهتمام، فثمة إستراتيجية هنا وهي كبيرة وتصبو إلى تحقيق أهداف شاملة، تمكنها من تسهيل حياة الناس عبر تحسين تجارب التعامل مع الخدمات اليومية.
نحن نرى تجارب متنوّعة يسعى جلّها للتأكد من نجاح المفاهيم المتعلقة باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي بهدف تحسين عمل روبوتات الدردشة. وهذا ليس أمراً مفاجئاً، إذ وبحسب تقرير لشركة PSFK فإن نحو 74 في المئة من العملاء يفضلون استخدام روبوت الدردشة بدلاً من انتظار موظف خدمة العملاء، على الرغم من أن العديد منهم يعتقدون أن هذا النوع من التفاعل غير مفيد. كذلك نحن نشهد استكشاف الإدارات الحكومية سُبل استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لنقل المعرفة المتعلقة بنماذج الخدمة الذاتية. وهو أمر يتوقع حصوله نحو 79 في المئة من العملاء لدى المؤسسات التي يتعاملون معها. كذلك، ثمة اهتمام كبير بحالات الاستخدام التي تتضمّن الترجمة الآنية أيضا.
لكن لتحقيق أقصى استفادة من هذه التكنولوجيا بشكل فعلي، تدرس الإدارات الحكومية الرائدة كيفية دمج الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل صحيح في صلب تجارب المواطنين. إنهم يسعون خلف فكرة تتيح وجود تطبيق رقمي وسيط، من النوع الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتعزيز العلاقة التي تربط العميل بموظف خدمة العملاء. وهو ما سيتيح في النهاية تحسين تجارب الاستخدام لكلا الطرفين وبشكل لم نشهده من قبل. وسنرى عندئذ وتيرة متسارعة لا نهاية لها لحالات الاستخدام.
وهكذا، وبقدر قليل من الجهد وبعض الوقت، سيكون بإمكان العملاء وموظفي خدمة العملاء الوصول إلى المعلومات عندما يحتاجونها، والمضي قدماً في رحلة العميل. وسيكون بإمكان المؤسسات أيضاً التعلّم من هذا النوع من المقاربات، واستكشاف النقاط التي تحتاج إلى تطوير وتوضيح أو تسهيل، للتوصّل في النهاية إلى تحسين كامل التجربة التي تربطها بالعملاء.
لكن لنكن واقعيين، هذه التطبيقات لن تغيّر عالم تجارب الاستهلاك غداً. فالتطورات المتعلقة بعملية الاستخدام ستكون محكومة بانتهاج مسار دقيق، وستُبنى على إستراتيجيات أكبر وأكثر شمولاً، تماماً كتلك التي نراها في الإمارات. وإذا كان هناك من بلد يستطيع التعامل بشكل صحيح مع هذه الثورة، فلا شك إن الإمارات هي في الصدارة.